بسم الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
يقول المولى تبارك وتعالى في آية عظيمة:{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }[الروم:7].
- قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -طيب الله ثراه- في تفسيره الماتع (أضواء البيان):
والثالث: أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا .
والرابع: أنهم غافلون عن الآخرة . وهذه الأمور الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع .
أما الأول منها: وهو كونه لا يخلف وعده ، فقد جاء في آيات كثيرة كقوله
تعالى : { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } [ الرعد : 31 ] وقد بين تعالى
أن وعيده للكفار لا يخلف أيضاً في آيات من كتابه كقوله تعالى : { قَالَ
لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد مَا
يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ } [ ق : 28-29 ] الآية .
والتحقيق : أن القول الذي لا يبدل لديه في هذه الآية الكريمة ، هو وعيده للكفار .
وكقوله تعالى : { كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ } [ ق : 14 ] وقوله :
{ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ } [ ص : 14 ] ، فقوله :
حق هاتين الآيتين . أي وجب وثبت ، فلا يمكن تخلفه بحال .
وأما الثاني منها: وهو أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعملون ، فقد جاء
موضحاً في آيات كثيرة ، فقد بين تعالى أن أكثر الناس هم الكافرون كقوله
تعالى : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } [ هود : 17 ] . وقوله
تعالى : { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين } [ الصافات : 71 ] ،
وقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُّؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 8-67-103-139-158-174-190 ] . وقوله تعالى : {
وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله إِن
يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ الأنعام :
116 ] ، وقوله تعالى : { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد بين جل وعلا أيضاً في آيات من كتابه أن الكفار لا يعلمون كقوله تعالى :
{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }
[ البقرة : 170 ] . وقوله تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ المائدة : 104 ] ، وقوله تعالى :
{ وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ
إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [
البقرة : 171 ] ، وقوله تعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلاً } [ الفرقان : 44 ] وقوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ
يَسْمَعُونَ بِهَآ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون }
[ الأعراف : 179 ] ، وقوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ
أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير } [ الملك : 10 ] إلى غير
ذلك من الآيات .
وأما الثالث منها: وهو كونهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ، فقد جاء
أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان
أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } [
العنكبوت : 38 ] : أي في الدنيا . وقوله تعالى : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن
تولى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا ذَلِكَ
مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن
سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى }[ النجم : 2930 ] الآية .
وأما الرابع منها: وهو كونهم غافلين عن الآخرة فقد جاء في آيات كثيرة كقوله
تعالى عنهم : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلاَّ
حَيَاتُنَا الدنيا } [ المؤمنون : 3637 ] الآية .
وقوله تعالى عنهم : { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } [ الدخان : 35 ] ، {
وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [ الأنعام : 29 ] و [ المؤمنون : 37 ] ، {
مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] والآيات في ذلك كثيرة
معلومة .
~ تنبيه ~
اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا القرآن : أن يتدبر آية الروم تدبراً كثيراً ، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس .
وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى ضعاف العقول من المسلمين
شدة إتقان الإفرنج ، لأعمال الحياة الدنيا ومهارتهم فيها على كثرتها ،
واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك ، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال
أنه على الحق ، وأن من عجز عنها متخلف وليس على الحق ، وهذا جهل فاحش ،
وغلط فادح . وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة وتخفيف لشأنها أنزله
الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرلة ، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه ،
وما أعظمه ، وما أحسن تعليمه .
فقد أوضح جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أكثر الناس لا يعلمون ، ويدخل
فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيوية دخولاً أولياً ، فقد نفى عنهم جل وعلا اسم
العلم بمعناه الصحيح الكامل ، لأنهم لا يعلمون شيئاً عمن خلقهم ، فأبرزهم
من العدم إلى الوجود ، وزرقهم ، وسوف يميتهم ، ثم يحييهم ، ثم يجازيهم على
أعمالهم ، ولم يعلموا شيئاً عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبدية
في عذاب فظيع دائم : ومن غفل عن جميع هذا فليس معدوداً من جنس من يعلم كما
دلت عليه الآيات القرآنية المذكورة ، ثم لما نفى عنهم جل وعلا اسم العلم
بمعناه الصحيح الكامل أثبت لهم نوعاً من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى
غيره .
وعاب ذلك النوع من العلم بعيبين عظيمين :
أحدهما: قلته وضيق مجاله ، لأنه لا يجاوز ظاهراً من الحياة الدنيا ، والعلم
المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة ، وضيق المجال بالنسبة
إلى العلم بخالق السماوات والأرض جل وعلا ، والعلم بأوامره ونواهيه ، وبما
يقرب عبده منه ، وما يبعده منه ، وما يخلد في النعيم الأبدي من أعمال
الخير والشر .
والثاني منهما: هو دناءة هدف ذلك العلم ، وعدم نيل غايته ، لأنه لا يتجاوز
الحياة الدنيا ، وهي سريعة الانقطاع والزوال ويكفيك من تحقير هذا العلم
الدنيوي أن أجود أوجه الإعراب في قوله : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً } أنه بدل
من قوله قبله لا يعلمون ، فهذا العلم كلا علم لحقارته .
قال الزمخشري في الكشاف ، وقوله : يعلمون بدل من قوله : لا يعلمون ، وفي
هذا الإبدال من النكته أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ، ويسد مسده
ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا
يتجاوز الدنيا .
وقوله : { ظَاهِرا مِّنَ الحياة الدنيا } يفيد أن الدنيا ظاهراً وباطناً
فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها ، والتنعيم بملاذها وباطنها ،
وحقيتها أنها مجاز إلى الآخرة ، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة
، وفي تنكير الظاهر أنه ملا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من ظواهرها . وهم
الثانية يجوز أن يكون مبتدأ ، وغافلون خبره ، والجملة خبر ، هم الأولى ،
وأن يكون تكريراً للأولى ، وغافلون : خبر الأولى ، وأية كانت فذكرها مناد
على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ، ومقرها ، ومحلها وأنها منهم تنبع وإليهم
ترجع . انتهى كلام صاحب الكشاف .
وقال غيره : وفي تنكير قوله : ظاهراً تقليل لمعلومهم ، وتقليله يقربه من النفي ، حتى يطابق المبدل منه . اه . ووجهه ظاهر .
واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلم هذه العلوم الدنيوية ، كما أوضحنا ذلك
غاية الإيضاح في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : { أَطَّلَعَ الغيب
أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 78 ] وهذه العلوم الدنيوية التي
بينا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار ، إذا تعلمها
المسلمون ، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقاً لما أمر الله به ، على
لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : كانت من أشرف العلوم وأنفعها ، لأنها
يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته جل وعلا ، وإصلاح الدنيا والآخرة ،
فلا عيب فيها إذن كما قال تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم
مِّن قُوَّةٍ } [ الأنفال : 60 ] فالعمل في إعداد المستطاع من القوة
امتثالاً لأمر الله تعالى وسعياً في مرضاته ، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم
الكفار الغافلين عن الآخرة ، كما ترى الآيات بمثل ذلك كثيرة . والعلم عند
الله تعالى .
انتهى كلامه -رحمه الله-
- وقال الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله في تفسيره البديع (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) لهذه الآية:
" يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا "
فينظرون إلى الأسباب ، ويجزمون بوقوع الأمر ، الذي في رأيهم ، انعقدت أسباب
وجوده ، ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية
لوجوده ، شيئا فهم واقفون مع الأسباب ، غير ناظرين إلى مسببها ، المتصرف
فيها .
" وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ "
قد توجهت قلوبهم ، وأهواؤهم ، وإراداتهم ، إلى الدنيا وشهواتها ، وحطامها ،
فعملت لها ، وسعت ، وأقبلت بها وأدبرت ، وغفلت عن الآخرة . فلا الجنة
تشتاق إليها ، ولا النار تخافها ونخشاها ، ولا المقام بين يدي الله ولقائه ،
ويروعها ويزعجها ، وهذا علامة الشقاء ، وعنوان الغفلة عن الآخرة . ومن
العجب أن هذا القسم من الناس ، قد بلغت بكثير منهم ، الفطنة والذكاء في
ظاهر الدنيا ، إلى أمر يحير العقول ، ويدهش الألباب . وأظهروا من العجائب
الذرية ، والكهربائية ، والمراكب البرية والبحرية ، والهوائية ، ما فاقوا
به وبرزوا ، وأعجبوا بعقولهم ، ورأوا غيرهم عاجزا عما أقدرهم الله عليه .
فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء ، وهم مع ذلك ، أبلد الناس في أمر
دينهم ، وأشدهم غفلة عن آخرتهم ، وأقلهم معرفة بالعواقب . قد رآهم أهل
البصائر النافذة ، في جهلهم يتخبطون ، وفي ضلالهم يعمهون ، وفي باطلهم
يترددون . نسوا الله ، فأساهم أنفسهم ، أولئك هم الفاسقون . ولو نظروا إلى
ما أعطاهم الله وأقدرهم عليه ، من الأفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها ، وما
حرموا من العقل العالي ، لعرفوا أن الأمر لله ، والحكم له في عباده ، وإن
هو إلا توفيقه أو خذلانه ، ولخافوا ربهم وسألوه أن يتم لهم ما وهبهم ، من
نور العقول والإيمان ، حتى يصلوا إليه ، ويحلوا بساحته . وهذه الأمور لو
قارنها الإيمان ، وبنيت عليه ، لأثمرت الرقي العالي ، والحياة الطيبة .
ولكنها لما بنى كثير منها على الإلحاد ، لم تثمر إلا هبوط الأخلاق ، وأسباب
الفناء والتدبير .
انتهى كلامه -رحمه الله-